عاشق التراث المكي المعماري سامي عنقاوي:العودُ كان يُعزف في بيوت مكة ولا توجد عنصرية فيها.. ومن يتسم بها فليس “مكاويًّا”


جريده المدينه

شعرت وأنا أدخل في منزل الدكتور سامي عنقاوي ضيفنا في هذا الحوار أنني في داخل مزار أو متحف يحتوي كنوزًا من المقتنيات،

ونوادر من معالم تراثية تفوح بعبق التاريخ الحجازي، وعشق بين المكان والمحتوى.. هكذا كان الشعور الداخلي الذي انتابني في منزله، تكلم الدكتور العنقاوي بعفوية وتلقائية منشرح الصدر.. ممّا جعلني أشعر أنه قد يكون يفكر في موضوع آخر خارج الحوار بسبب مكونات المكان، وتحليقه في آفاق التاريخ والماضي، كما تناول كثيرًا من القضايا والمواقف التي مر بها دون أن يقولبها في إطار من السلوفان الدبلوماسية والمجاملة.. حيث أرجع المهندس سامي عنقاوي سبب استقالته من مركز أبحاث الحج إلى طغيان البيروقراطية وتغيّر الصلاحيات، مشيرًا إلى أن من أتوا بعده لم يستطيعوا تطبيق الأبحاث التي سبق وأن أعدوها، مبينًا أن الحوار الوطني أحدث تغييرًا كبيرًا بكسره للجمود، وإزالة الحواجز، لافتًا إلى أن ما ينقص الحوار الوطني وجود مركز للأبحاث تابع له، داعيًا الباحثين في الجامعات إلى أداء دورهم في هذا الجانب بدلاً من لعب «البلوت».. كذلك أشار عنقاوي إلى أن الدور الاجتماعي والثقافي والحضاري والعمراني لمدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة قد انتهي، مشيرًا إلى أنهما تتآكلان طبيعيًّا، كما وصف عنقاوي المجتمع المكاوي بالنابذ للعنصرية، مؤكدًا أن من ينتهج مثل هذا النهج فليس مكاويًا، نافيًا أن يكون مجلس مكة مقتصرًا على أبنائها فقط، مشيرًا إلى أن 80% ممّن يزورن المملكة العربية السعودية لابد أن يزوره في بيته، معددًا في ذلك زيارة مالكوم إكس، ومبعوثة الرئيس بوش التي دمعت عيناها عندما دخلت في نقاش مع أحد الشباب في مجلس المكية..
موقف عنقاوي من الليبرالية، ونظرته للمعترضين على إقامة الموالد، وموقفه من الفكر والتعددية، وغيرها من المحاور الأخرى في سياق هذا الحوار..
* بصفتك رجلاً معماريًّا وحجازيًّا وباحثًا في التاريخ ومطوفًا.. أحب أن أسألك من هو سامي عنقاوي؟
تستطيع أن تقول إنني رجل يحاول أن يفكّر، فكثير من وقتي أقضيه في عملية التفكير، لقناعتي أن التفكير هو الخطوة الأولى نحو تعرف الإنسان على نفسه وعلى ما حوله، كما أعتقد أن لا تعارض بين الفكر والعقل والعاطفة أو القلب. وأرى أن التوحيد يشمل كل شيء، فنحن لا نستطيع أن نقول لأحد «خليك عقلانيًّا»، أو «لا تكن عاطفيًّا»، أو «لا تفكر». الفكر في رأيي مطلق، وهذه منطقة حرة يجب أن لا تحدها أي قيود باستثناء قيد واحد حدّده سيدنا علي -رضي الله عنه- حينما قال: «تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله». الذات الإلهية لا يحيط بها شيء، ولا يستطيع عقل الإنسان المحدود أن يشملها. لو كنت ألخص فكري في كلمة واحدة أقول إنها الميزان.
ضبط الميزان
* بوصفك من فئة نخبوية.. هناك مَن يرى أن هذه النخبة لم يعد لها تأثير في المجتمع؟
لسنا بعيدين في المجتمع؛ ولكن كما ذكرت لك فإن الفكر شيء مطلق، ومسألة الحرية مسألة أساسية. أحيانًا أقارن ما بين الجسد والنفس. الجسد لا يستطيع العيش بدون أكل أو بدون ماء أو هواء وأوكسجين؛ كذلك فإن النفس لا تستطيع أن تعيش بدون أوكسجينها وهو الحرية حتى تستطيع أن تتطور وتفهم وتتعايش وتتعلم. إذا لم يشعر الإنسان بحرية كافية، وقد يأتي مَن يقول لي إن الحرية محدودة فأقول إن هذه نقطة خلاف بيننا، فأنا أرفض وجود الأُطر في إطار فكر مطلق. هناك فرق بين المحور والإطار؛ الإطار مهما اتّسع فهو محدود، أمّا الحرية فهي مع ثابت. هناك ثابت ومتحوّل وجاءت فترة أضعنا فيها مجهودًا كبيرًا، وهي أن الثابت ثابت، والمتحول متحوّل، والثابت أصولي ومتخلّف ورجعي، والثاني إنسان معاصر وليبرالي وغير ذلك. هناك ثابت ومتحوّل، وهاتان لا يمكنهما العيش بدون بعضهما البعض، وبينهما الميزان. هذا دور الميزان، فهناك ثوابت أزلية مثل وجود الله عز وجل، وسواء اعترف به الإنسان، أو لم يعترف فهو موجود. ومن الثوابت كذلك السنن الكونية فهناك جذب وطرد. هناك ثابت بالاتفاق، وهذا مهم جدًّا حيث نتفق على أشياء معينة..
خطأ التعميم
* برزت مؤخرًا ظاهرة التصنيف بين المذاهب والتوجهات الفكرية بين ليبرالي وأصولي.. ما تفسيرك لبروز هذه الظاهرة الآن؟ وما هو موقفك منها؟
هناك شيئان يتغلّبان علينا هما التصنيف والتعميم. التصنيف هو وضع المسلم في خانة ما، وأنه كذا أو كذا، أو ملتزم أو غير ملتزم. التصنيف بدرجة التميّز وهو أنني من صنف كذا، والآخر من صنف كذا، فإنني أحسن منه وهو أقل مني فهنا يكمن الخطأ. التعميم هو أن كل مَن لا يسير على طريقي فهو كافر. ينبغي أن نتوقف هنا..
* لماذا برزت هذه الظاهرة في هذا الوقت؟
الفكر لا يمكن أن يكون واحدًا. حتى في القرآن تجد قوله تعالى «لقوم يتفكرون». الفكر يعني أن يفكر كل شخص لحاله، ولكن يكون هناك تبادل. إذا لم يتم ذلك فممّن نتعلم؟. هذه هي ميزة التعارف. الله سبحانه وتعالى خلقنا مختلفين، وينبغي أن نظل كذلك، ولا توجد طريقة أخرى إلاّ أن نكون مختلفين؛ لأن هذا من السنن الكونية. حتى الكون وطبيعة التكوين تجدها مختلفة. التوحيد والتنوع، لا توحيد بلا تنوّع ولا تنوع بلا توحيد. لا أتحدث عن الجانب الديني، ولكن أعني من كلمة التوحيد التجمع والتوحد. لدينا مثال واضح على التوحيد، وهي المملكة العربية السعودية التي كانت متفرقة حتى جاء الملك عبدالعزيز -رحمة الله عليه- واجتهد -جزاه الله خيرًا- وضحّى مع أبنائه ومعهم آخرون في وقت التحوّل السريع. عندما تريد أن تستقر وتبني حضارة تلزمك أشياء كثيرة. إذا أردت أن تجلس على كرسي فإنك لا تستطيع الجلوس على كرسي له رجل واحدة، أو رجلان. إذا كانت ثلاث أرجل تستطيع الجلوس، ولكنك تحتاج لعمل توازن. إذا كانت أربع أرجل تستطيع الجلوس براحة. إذا كانت خمس أرجل يكون الكرسي أكثر ثباتًا ورسوخًا.
ضرورة التعددية
* هل تعني أننا كنا نتابع فكرًا واحدًا، والآن ينبغي أن تكون هناك تعددية؟
لا جدال في ذلك، وأعتبره من الأساسيات. لا يكفي أن نعترف بالتنوع فقط؛ بل ينبغي أن نشجع على التنوع، ولكن في إطار خطة إستراتيجية متكاملة تجمع هذا الوطن، وتوازن بين المكتسبات التي تمت ومعرفة الطريق الذي نسير عليه، ومعرفة المطلوب عمله. قمنا بذلك بداية في مركز أبحاث الحج قبل حوالى 35 عامًا. وهو أول مركز أبحاث حاول إيجاد توازن بين الثوابت والمتغيرات بناء على دراسات. المطلوب الآن هو إنشاء العديد من مراكز الأبحاث، وأتمنى أن لا نكون قد تأخرنا لأن هذا الأمر كان ينبغي أن يبدأ عندنا قبل 30 عامًا على الأقل..
نظام مفقود
* ماذا تريد من مراكز الأبحاث بالضبط؟
كل شيء، وأن تكون المراكز في كل جانب. عند بداية الحوار الوطني كان من المفترض أن ينشأ معه مركز أبحاث منذ البداية لتجميع كل الأبحاث، ويتم تكوين شبكة مع الجامعات لدراسة مخرجات هذا المؤتمر وفلترتها، وتصنيفها ومن ثم رفعها لمجلس الشورى الذي يرفعها إلى مجلس الوزراء. كذلك لا يوجد لدينا نظام. الأنظمة المختصة بـ «أفعل ولا تفعل» موجودة، وكذلك الأنظمة التي تحدد الحقوق والواجبات، ولكن كمنظومة أعتقد أن هناك نقصًا كبيرًا جدًّا. نحتاج إلى أن ندخل مباشرة للتعرف على التنوع الموجود في كل الطبقات، والأماكن الجغرافية لمعرفة الوضع والمعطيات، ونبدأ في عمل رؤية واضحة. هذه الرؤية يمكن أن نبدأ دراستها لنصل إلى تصورات وخطط وإستراتيجيات. هناك تسلسل في العلم حيث يبدأ العمل بالبحث العلمي والحصول على المعلومات، ومن ثم الوصول إلى الاقتراحات والحلول الإستراتيجية التي ترفع إلى هيئة أعلى. القرارات المتخذة تتحوّل إلى سياسات، ومن ثم إلى خطط، وبعد ذلك إلى مشاريع يجري تنفيذها. نحن الآن في وضع جديد. قبل 50 عامًا كان الوضع خلاف ما نحن عليه ولم يكن يتضمن غير العلاقات الاجتماعية والعلاقات الداخلية والعلاقة مع ولاة الأمر. المسألة كانت محدودة. الوضع الآن تغير بالكامل، وصار هناك علماء ورجال وسيدات وبعضهم درس بالخارج. كل عام تحدث متغيرات خارجية يطلع عليها الشباب. ما هي الثوابت والمتغيرات.. هنا نحتاج إلى عمل كبير.
الباحثون والبلوت
* من واقع مشاركتك في مؤتمرات الحوار الوطني كيف ترى التجربة بشكل عام؟ وما هي نتائجه؟
أهم شيء في هذا الحوار هو أنه أحدث تغيرًا كبيرًا؛ لأنه كسر الجمود، وأزال بعض الحواجز خصوصًا في الدورة التي حضرتها في مكة. لم أحضر بقية الجلسات ولكني حضرت جلسة أخرى عن المنتديات في المملكة. لكن الحوار الوطني كان ممتازًا، وكان كل شيء مسجلاً ومصورًا، وأنا على ثقة من أنه حقق شيئًا. لكن ما أرى أنه ينقصه هو وجود مركز أبحاث لجمع كل هذه الحصيلة، ومتابعتها، وإتاحة فرص للباحثين في الجامعات. لدينا باحثون في الجامعات يمكنهم أن ينجزوا على هذه البحوث بدلاً من أن يجلسوا ليلعبوا (البلوت). لا أعنى أنهم كلهم يلعبون «بلوت»، فهناك باحثون أكفاء وعلى مستوى عالٍ، ولكن ينبغي أن يجدوا ما يفعلونه. من المفترض أن تكون هناك مراكز للأبحاث الاجتماعية وغيرها، أو تكون هناك مراكز أبحاث مستقلة تابعة للحوار الوطني، ويكون هناك مركز أبحاث تابعة لمجلس الشورى..
حوار بدل التفحيط
* هناك مَن يرى أن مجموعة المتحاورين ينقسمون إلى فئتين إحداهما تحضر بغرض الوجاهة فقط، وتلبية الدعوة، والآخرون لهم أجندة معينة مثل توسعة الحوار..
ربما تكون هناك فئة تريد الحوار، وتهدف للوصول إلى شيء مشترك، لا أقول بأن نتوقف. في نفس المدرسة والفصل يجب أن يتواصل الحوار. هذا أفضل للشباب من التفحيط والانضمام لهذه المجموعة أو تلك. ينبغي دفعهم للتفكير بطريقة مدروسة ومنظمة. إذا كان ممكنًا ينبغي الترتيب لها بعد الاتفاق حول الثوابت التي تدور حولها.
زيارة حتمية
* هل تتحاور مع كل الفئات والأطياف؟
نعم، ومن يأتي فمرحبًا به. أحب أن أتكلم مع الذي يخالفني في التفكير. ماذا أستفيد من التحاور مع مَن يتفق معي بالكامل؟! ينبغي للحوار أن يتصل إلى مستويات في عقيدة أخرى، وفكر آخر. حضرت مؤتمرات خارجية، ودعيت لشخصي. ما حدث في بيتي بعد أحداث سبتمبر، 80% ممّن يأتون إلى جدة لا بد أن يزوروني مع العلم أني لا أكتب في صحف أو خلافه. في كثير من الأحيان ننظم جلسات للحوار دون أن نعلن عنها في الإعلام. كارتر مثلاً زارني مرتين، وقال إنه يريد أن يشاهد المنزل؛ لأن البعض قالوا له بوجود شيء لطيف. المرة الثانية أكد حضوره وجمعنا له مجموعة، واتفقنا على نقاط إنسانية. إذا كان هناك دين للعالمين فهو الإسلام. الله سبحانه وتعالى يقول: «وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين» ولم يقل للمسلمين أو للمؤمنين.
ضد العنصرية
* لماذا يعقد مجلسكم بشكل دوري بعيدًا عن الإعلام؟
لأننا نريده أن يكون للحوار والنقاش، وتفعيل للبيوت المكية. هناك مبادئ هامة من أهمها نبذ العنصرية. لا توجد عنصرية. ففي مكة لا توجد عنصرية. إذا كان هناك «مكاوي» عنصري فهو ليس مكاويًا؛ لأنه سيصبح ضد نفسه، لأن المكاوي تشكيلة. هذه الأسس التي نضعها نلتزم بها. حتى عندما لا أكون موجودًا فإن الشباب يقومون بتنظيم المجلس. سيحدث ترتيب لهذا المجلس بحيث يكون بصورة راتبة ومنظمة حتى ولو لم أكن موجودًا.
مكاوي منبسط
* أنت صوفي وليبرالي وحجازي في وقت واحد.. كيف جمعت بين الشخصية الصوفية مع الليبرالية؟
لأني «مكاوي» (ضاحكًا)..
* هل المكاوي ليبرالي؟
المكاوي ليبرالي ومتحفظ، ويحب أن «ينبسط» في وقت الانبساط، وفي أوقات التدين يكون متدينًا، وكل شيء له وقته وميزانه. لقد نشأنا على ذلك، وكنا منذ صغرنا نحضر مجالس الذكر ومجالس المزمار، ونحضر مجالس طرب سواء كانت صغيرة أو كبيرة. بيوت مكة كان يُعزف فيها العود والناس يخرجون للتنزه. من ضمن المقامات الموسيقية هناك المقام الحجازي. إذا نظرت إلى حلقات تطور الموسيقى في العالم العربي والموسيقى الشرقية ستجد أن الحجاز لعب دورًا كبيرًا في ذلك. نفس الأمر ينطبق على العمارة. إذا قرأت تاريخ كل مَن أبدع سواء كان في مجال الفكر أو العلم أو حتى القيادة السياسية ستجد أنه بزغ وظهر بعد أن جاء إلى مكة؛ لأن الصورة ستكتمل عنده. آخر هؤلاء مالكوم إكس الذي تغير تفكيره عندما جاء إلى هنا. قوة المجتمع المكي في هذا التنوع، ونفس الأمر ينطبق على المدينة. جزء من المعطيات التي أكرمنا بها الله في هذا البلد هو وجود مكة والمدينة، وكذلك البترول. الخصائص التي تختص بها مكة والمدينة والمنافع التي تخرج من الحج أعتقد أنها لم تفعَّل بطريقة كافية، بل صرنا ولظروف ما نفكر في انتهاء موسم الحج لنرتاح.
* أين هو التراث الحجازي؟ لأننا لم نره واقعًا، بل رأيناه ثقافة!
الواقع كان موجودًا وتطور على مر الزمان إلى قبل (50) سنة، حيث بدأ ينقرض ويتقلص. الآن أعتقد أن مكة والمدينة قد انتهتا اجتماعيًا وثقافيًا وحضاريًا وعمرانيًا، والأخطر من ذلك أنهما تتآكلان طبيعيًا.
حتى الطبيعة تتغير، ويتم إزالة جبال مكة في الوقت الحالي. هذا أراه خطأ كبيرًا، وأنا كمخطط ومعماري وإنسان درس الحج والعمرة في مكة أرى أنه يمكن أن نستوعب الأعداد الكبيرة، وأن يكون المكان مخططًا على أحسن ما يكون، ولكن من الميزان.
بيروقراطية وأخطاء كبيرة
* ما هي الأحداث التي أدت إلى تركك معهد أبحاث الحج؟
انتقال المركز إلى جامعة أم القرى. في تلك الفترة كانت الجامعة تصر على انتقال المعهد إليها..
* وتبعيته للجامعة؟
المعهد أصلاً كان يتبع للجامعة، ولكن كان الاتفاق مع المجلس الأعلى للمعهد الذي يرأسه الأمير نايف على أن يهتم المركز بمدن مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة. جامعة الملك عبدالعزيز أبدت استعدادها على أن تحتضن المعهد، وأن تكون هناك أنواع من الدراسات في جدة وكراتشي ونيجيريا وإندونيسيا ومصر وغير ذلك. النظرة تغيرت..
* ما هو السبب المباشر في الخلاف؟
هو ما ذكرت لك، النظرة إلى المركز من إطار ضيق. كانت هناك بيروقراطية عالية جدًّا؛ وكانوا ينظرون إلى كل ما قمنا به على أنه خطأ، ولا بد من تعديله على الرغم من أن المعهد كان على بند أبحاث مرن، لكن العملية تحولت إلى عمل بيروقراطي متعب، كما أن الصلاحيات تغيرت. وجدت أنني تعبت ولا توجد فائدة من استمراري فاستقلت. طلبوا مني أن أبقى كمستشار، ولكني رفضت لأني لم أكن أبحث عن وظيفة. المركز كان متقدمًا جدًّا وحتى الآن لم يستطيعوا تطبيق 80% من دراساته وهناك أخطاء كبيرة ترتكب لما قمنا بإنجازه بعد أبحاث وشهادات دكتوراة. مثال على ذلك مشروع القطارات التي يجري تنفيذه الآن. الأولويات صارت مختلفة. إذا كنا سنقوم بهذا المشروع، فينبغي أن يكون خط سير القطار هو مكة جدة المدينة وهذا سيحل مشكلة كبيرة في رمضان وطول العام. أما عرفة ومزدلفة ومنى والحرم ومكة فإن كل مرحلة من هذه المراحل لها تصميم خاص بها. إذا قلنا للناس إننا سنرجع إلى الحج وأصوله، وإن عليهم أن يأتوا بالمراكب الشراعية والجمال بديلاً عن الطائرات، فإن هذا لن يكون مقبولاً. الآن توجد أنواع لا حصر لها من القطارات المعلقة، ليس بالضرورة أن نستخدم أفضل الأنواع وأعلاها تكلفة، وهي تصمم بصورة حصرية للمشروع. أتمنى أن يتحول التركيز على قطار جدة مكة المدينة. سأعطيك مثالاً عن دراسة دكتوراة أعدها الدكتور عادل بوشناق، وهو من أفضل المفكرين في المملكة، ولكنه الآن ترك هذا المجال واتجه لمجالات أخرى. واضح من الدراسات التي أجريناها لمدة (15) سنة، ووضعنا إستراتيجية بسيطة جدًّا منها تشجيع المشي، وهذا له طرق كثيرة. تشجيع الحجاج على المشي له طرق كثيرة منها تمهيد الطريق، وحل مشكلات الحمامات، وقضايا الأمتعة التي يحملها الحجاج. أيضًا توفير النقل الجماعي. لم نقل النقل العام؛ لأن ذلك قد يعني أشياء أخرى. هناك أيضًا منع السيارات الصغيرة والخاصة. قمنا بعمل مخطط منذ العام 1972م منذ مرحلة الماجستير. أنجزنا فيلمًا في مركز أبحاث الحج.
خطف الآراء
* هل هناك تعاون بينك وبين وزارة الحج؟
لا يوجد تعاون بيني وبين أي أحد.
* ما هو تفسيرك لإبعادك بهذه الصورة؟
لا أدري ويمكنك سؤال غيري. أُستشار في خارج بلادي، وأشارك في ندوات ومؤتمرات. الجميع يحبوني -بحمد الله- ويحترموني. ما قلته هو شيء غريب لا أستطيع أن أفسره إلاّ بأني إنسان مستقل، ولي آرائي الخاصة. أحيانًا للأسف الشديد تختطف آرائي وتنفذ بطريقة خاطئة.
خطأ فرض العقائد
* بعد وفاة محمد علوي المالكي، ومحمد عبده يماني، وغيرهما من الشخصيات الدينية.. كيف ترون غياب هذه الرموز التي لا تتكرر؟
نعم.. الرموز لا تتكرر؛ ولكن لكل دولة رجال، وأعتقد أن هناك رجالاً موجودين..
* هل هناك رجال بارزون على مستوى الفكر الصوفي؟
نعم، هناك شخصيات وإن لم تظهر بعد، ومنها أبناء السيد محمد علوي مالكي، وأبناء السيد عباس، وهناك شباب في الثلاثينيات، وعلى مشارف الأربعينيات يمكن أن تبرز. لا زوال لدينا نوع من الاستحياء الناتج من خوف من تشبع مدارس أخرى. البعض يكرر موضوع منع إقامة الموالد، وكأننا لا نملك فعالية غير الموالد. مكة انتهت وآثارها أزيلت، ولا زلنا نفكر في إقامة الموالد. مَن يريد إقامة موالد يمكنه إقامتها، ومن له رأي مخالف ليتفضل ويناقش. الإخوة الشيعة لهم فعاليات يقيمونها، وإذا لم تكن تمس عقيدتنا بصورة مباشرة يمكنهم إقامتها كما تم الاتفاق عليه في مؤتمر الحوار الوطني. هذه من الثوابت في نظري. أولاً الله واحد رب العالمين. وكذلك الدين واحد لكل المسلمين. من قال لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، وصلّى إلى قبلتنا فهو مسلم. جميل أن تكون هناك مذاهب إسلامية. لا نستطيع أن نمنع وجود المعتقدات. أنا وأبنائي نختلف يوميًا، وأعتقد أحيانًا وقد أخطئ. الدين هو الأشمل وتأتي بعده المذهب. أمّا العقيدة فهي كلمة جاءت مؤخرًا ولم ترد في القرآن الكريم أو السنة النبوية، وإنما جاءت مع موضوع التصنيفات. الإشكالية ليست في وجود عقائد متباينة، وإنما في محاولات فرض عقيدة على حساب الأخرى.
تجميع الزوايا
* مُسمى «مجلس المكية».. هل يفهم من عنوانه أنه مقتصر على الشأن المكي فقط؟
أبدًا.. المكية فكرتها من طريقة تفكير أهل مكة وهي الشمولية وعدم العنصرية وقبول الآخر. التفكير من هذا المنطلق. سألني البعض عمّا إذا كنت صوفيًا فقلت له إنني لست صوفيًا بمعنى أن لي شيخًا أتبعه، وآخذ منه أورادًا معينة، وأقوم بترديدها. لكني أحب أن أفكر بطريقة متعددة الأبعاد، وأحيانًا أرى الموضوع عن قرب، وربما أراه من زاوية وتراه من زاوية أخرى. أحب التعمّق والاطلاع على الجميع وأرى في كل مذهب، وكل اعتقاد أن هناك زاوية أخرى لو استطعنا تجميع هذه الزوايا والأبعاد والرؤى ستكون لنا صورة أشمل. الملك -حفظه الله- بدأ الحوار مع المسيحيين واليهود، ألن نستطيع أن نتحاور في ما بيننا باحترام وتقدير بين الصوفيين والشيعة والسلفيين؟ الآن نسمع بوجود تقسيمات وتصنيفات كثيرة. لا أرى خطأ في وجود التنوع، وإنما أعتبره نوعًا من السنن الكونية التي قام عليها الكون.
تحت الشمس
* هناك كثير من المجموعات التي تصدر البيانات المختلفة، وبعضهم له أجندة يخفيها من وراء المطالب كيف ترى هذا الأمر؟
أعتقد أن كل ما كان واضحًا وتحت الشمس فهو أفضل من العمل تحت السطح أو أن يقصر الإنسان آراءه في أحاديث جانبية، أو يقوم بعقد لقاءات خاصة سرية. ينبغي أن نسبق الأحداث. إذا توازن التغير مع الثوابت يكون تطورًا. إذا أخذ بعيدًا عن الثوابت سيكون تغييرًا والتغيير غير التطوير.
تخطيط معقّد
* مشاركتك على مستوى المحاضرات والدعوات خارجيًا لا يقارن بحضورك داخليًا.. إلى أي سبب تعزون ذلك؟
في بعض الأحيان تتم دعوتي لمؤتمرات وأستغرب من تلك الدعوات. بعض المؤتمرات تتحدث عن الأمن في الشرق الأوسط، وبعضها عن الديمقراطية والأمن، وأمور بعيدة عن تخصصي، ولكن هذه المؤتمرات أثرتني جدًّا. أتحدث دومًا من منطلق إنساني. ليست لي مطالب، ولكني أحب أن أتعرف على طريقة أفكار الآخرين. ما قادني إلى ذلك بصراحة هو مركز أبحاث الحج. لأني تعلمت أن استمع للآخر، وهناك أكثر من (50) تخصصًا، وأعتقد أنني أكثر من كلّف الدولة في التعليم. عملي في مركز أبحاث الحج استمر لفترة (14) عامًا. هناك (150) أستاذًا. ميزانية المركز كانت محدودة جدًّا، وكنا نصرف الميزانيات بدقة شديدة، وأحيانًا كنا نعتمد على التبرعات. المعلومات التي جمعناها في المركز كانت هائلة جدًّا، والتصورات التي جمعناها فيه كانت كبيرة. الحج فعلاً منظومة لا يوجد لها مثيل. التخطيط للحج قد يكون أكثر تعقيدًا من إنزال رجل على سطح المريخ. إنزال شخص على سطح المريخ يعتمد على حسابات ومعادلات، أمّا الحج فإذا استطعت أن تصل إلى 50 أو 60% من الحسابات فهذا يعني أنك وصلت إلى 100%، لذلك لا بد أن يكون لديك حدس، إضافة للمعلومات. الحج منظومة لذلك لا يمكن التعامل معه إلاّ بهذه الطريقة. هناك أبحاث صارت لكنها لم تكن مترابطة مع بعضها البعض. أتمنى أن ينشأ جهاز متكامل مرتبط بخادم الحرمين الشريفين مباشرة، يشمل مراحل البحث العلمي والدراسات، وتكون له هيئة عليا ترفع له التوصيات والقرارات ليتم إقرارها، ويتم إنزالها كسياسات تعتمد في التخطيط، وتنتقل إلى مخططات وتفاصيل ومواصفات فنية تطبق في مكة المكرمة والمدينة المنورة. إذا حدث ذلك نكون قد خطونا الخطوة الأولى.
انتقادات بدون مواجهة
* مجلس المكية يجمع الرجال والنساء ممّا يعده البعض اختلاطًا.. ألم تجد مضايقات؟
بالعكس والاحترام موجود..
* ألم يوجه لك أحدهم انتقادًا؟
بالتأكيد؛ هناك مَن ينتقد، ولكن لم يواجهني أحد. مرة كان لدينا اجتماع عندما أتت مبعوثة الرئيس بوش، واقترحت القنصلية الأمريكية أن تأتي بضيوفها فوافقنا. البعض رأى الصورة من الخارج، ولم يفهم الموضوع. بعد أن رجعت المبعوثة قالوا لي إن ذلك أجمل لقاء تم في رحلتها التي شملت مصر وتركيا والعراق وسورية هو الذي تم في المكية. النقاش كان ثريًا لدرجة أن عينيها أدمعتا في أثناء نقاشها مع أحد الشباب. للأسف نحن ننظر دائمًا للجوانب السلبية، ونغفل الجوانب الإيجابية. مع حبي لمكة وعشقي لها، فإنني أفضل أن أكون موجودًا في جدة؛ لأنها محل التفاعل والخط الأمامي الذي نلتقي ونتفاهم فيه. إلى الآن لا زال البعض يرى أن ما يقيمه هو الصحيح.
بدعة حسنة
* هل تقيمون احتفال المولد بصورة منتظمة؟
ليس بانتظام؛ ولكن هذا العام أحدثنا بدعة حسنة، وهي أننا كنا مع أحد الشيوخ. هذا يقودني إلى إيجاد مركز متخصص في الإبداع للتركيز مع الشباب مع التلاحم مع الأسبق، بدءًا من الحرف مثل التصوير السينمائي، وأعمال الكومبيوتر بهدف إحداث تواصل مع التراث والإبداع معًا. لدي المكان المناسب لإنشاء هذا المركز، ولدي الأفكار الكافية، والشباب الجاهز فقط تنقصنا الإمكانات. مثل هذا العمل يساعد على امتصاص طاقات الشباب بطريقة إيجابية.
أجناس متعددة
* ألاحظ أنك تميل للآخر الأجنبي، وبالذات الأمريكي، سواء على المستوى السياسي أو الإنساني.. ما هو تفسير هذه الزيارات المتكررة؟
ربما نشأ هذا بسبب زيارة بعض الشخصيات الأمريكية مثل كارتر، ولكن لنا علاقات مع الصين واليابان. أحيانًا نلتقي مع صينيين وأستراليين وأمريكيين وبريطانيين. قد يكون اللقاء بدون مواعيد. لدي قاعدة أساسية أسير عليها، وهي أن الذي يدخل بلدي فبيتي مفتوح له. بعضهم قالوا لي لو لم نزر بيتك لكانت لنا مفاهيم أخرى عن المملكة. دعوت كثيرًا من أهل البلد والأمراء. أتمنى أن يزورني الجميع، وأن نستطيع أن نستضيف بعض المسؤولين بغرض التحاور. المحاضرة لا تزيد على نصف ساعة، وبقية الوقت تكون لنقاشات شبابية. ليس من الضروري أن نتوصل إلى توصيات، ويكفينا مجرد النقاش والتفكير والتعبير. حتى الاسم قمنا بتغييره من المكية فقط إلى المكية المدنية حتى تتكامل الصورة. الطريقة المكية هي التي بدأت بالجماعة، الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومعه جماعة واكتملت بالمجتمع. هي التي ظهرت من أم القرى، وانتشرت إلى أم المدن لتصبح الحضارة المكية المدنية التي غطت الأرض. هي طريقة من لا طريقة لها، والطريقة التي تجمع كل الطرق.
مفتاح الحل
* كيف ترى دور مؤسسات المجتمع المدني في المملكة؟
هل هي موجودة بشكل ملحوظ؟ هذه إحدى الوسائل التي تستطيع استيعاب الشباب. لا بد أن يكون للشباب دور في الحج، وفي المحافظة على البيئة. إذا كان هناك مفتاح للحل فإن أسنان هذا المفتاح هي موضوع المجتمع المدني والبحث العلمي والحوار. إذا بدأنا الآن فإن لدينا إمكانات كبيرة. كثير من المعطيات التي تساعد على التحرك إلى الأمام بشكل أفضل موجودة. أكثر من 80% من هذه المعطيات موجودة إذا لم تكن أكثر لكنها غير واضحة بما فيه الكفاية. بعد ذلك تكون عملية الترتيب. لدينا فرصة كبيرة ويمكن لنا أن نسبق الأحداث. الملك عبدالله -حفظه الله وأحسن إليه- أتاح لنا الفرصة الكاملة. أعتقد أنه لا مخرج من موضوع الانتخابات على أي مستوى ومدى، ومنها المجلس البلدي ومجالس المناطق. كنت عضوًا في مجلس المنطقة لدورتين، وكذلك في مجلس الشورى. إذا حدث تنظيم بين الحوار من المجالس البلدية إلى مجلس المنطقة، ووجد تسلسل إلى مجلس الشورى، فإن هذا النوع من الإصلاحات السريعة التي تعطينا فرصة للتنفس لمدة عام. نظرية الفعل ورد الفعل لم تعد مناسبة.
*************************
عنقاوي.. المكي الذي عشق العمارة والتراث
ولد الدكتور سامي عنقاوي في مكة المكرمة عام 1368هـ 1948م، و تلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة الناصرية بمكة المكرمة، والمتوسطة بمدرستي الزاهر بمكة والسعودية بجدة، والثانوية بمدرسة الشاطىء بجدة، وحصل على بكالوريوس علوم العمارة من جامعة (ارلنجتون) ،، كذلك حاصل على ماجستير العمارة والتخطيط العمراني، وموضوعها الحج، جامعة تكساس، اوستن، الولايات المتحدة الأمريكية. عام 1975م ، كما حصل على دكتوراة الفلسفة في العمارة، وموضوعها العمارة المكية، مدرسة الدراسات الشريقة والإفريقية، جامعة لندن. ممّا جعله أحد الخبراء في فن العمارة وتحديدًا على الطراز الحجازي القديم، ويعتبر الدكتور عنقاوي خبيرًا في شأن الحج لخبرته الطويلة في إدارة مركز أبحاث الحج، وهو من الناشطين في ميدان الحوارات مع النخب الدينية والفكرية، أمّا في حياته العملية فهو أحد مؤسسي مركز عمار للتراث العمراني بجدة ويديره حاليًّا
رئيس اللجنة الدولية للعمارة في التصاميم الداخلية باليونسيكو، ومستشار سمو أمير منطقة مكة المكرمة لشؤون الحج والتخطيط العمراني، وعضو اللجنة الدولية للحفاظ على التراث الإسلامي وعضو اللجنة التوجيهية لمشروع تخطيط وتنمية منطقة مكة المكرمة، كما أنه عضو مشارك في متحف (هارفارد) الأمريكي لشؤون الاستشارات في العمارة التاريخية والفنون بالجزيرة العربية. وعضو لجنة المحافظة على المنطقة التاريخية بمنطقة جدة.
وأسس مركز أبحاث الحج بجامعة الملك عبدالعزيز، كما قام بترميم بيت الشافعي بالمنطقة التاريخية بجدة وبيوت تاريخية بمكة المكرمة. واختارته جامعة (هارفارد) الأمريكية لكرسي الزمالة بها في مجال العمارة والتنسيق البيئي والعمراني. وعمل نائب رئيس مجلس إدارة مركز أبحاث التاريخ والثقافة والفنون.
أسس منتدى المكية الفكري بجدة. ومن إنجازاته المعمارية بناء المركز الطبي الدولي بجدة.
له كتاب باللغة الانجليزية عن العمارة المكية.